في صيف عام 2012 تلقيت الدعوة مجددا لزيارة طهران والمشاركة في المهرجان الدولي للأفلام السينمائية القصيرة. لم يكن بالإمكان تفويت هذه الفرصة أو مقاومة غواية السينما الإيرانية التي أنجبت مجيد مجيدي مخرج فيلم "لون الجنة"، وبدون تردد اتخذت ذلك اليوم قرارا حاسما..
ظننت أن الوقت مناسب لنشر هذه القصاصة لا سيما مع الجدل الكبير حول علاقة العرب بإيران. في الجزء الأول حاولت أن أكون أمينا مع ذكرياتي، وسردت مشاهداتي في طهران وأنا أدرك أن البعض سيعدّ ذلك غزلا فاحشا في إيران في الوقت الذي تتهم فيه الأخيرة بأنها مسؤولة عمّا يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إيران ليست شراً محضاً، وكنت أقول لنفسي دائما إنه لا يجب في إيران أو سواها أن نحمل الشعب وزر النظام كلّه، أو أن نترك الكراهية تحجب عنّا رؤية الحقيقة كما هي. ولكنني في الوقت نفسه مثل كثير من الشباب العربي لا يمكن أن أتجاهل اليوم حقيقة أن إيران أحد المكابح التي تباطأت بفعلها ثورات الربيع العربي، وينتابني شعور مؤلم بأنها تغولت في أرضنا وسمائنا، وباتت تحصارنا من كل اتجاه.
كنت حتى بدايات الربيع العربي، أقنع من حولي بأن إيران هي جوارنا الحضاري، وأنه لا مفر من التفاهم والتعايش مع هذا الجوار. لم أتخل عن قناعتي هذه لأن البديل هو أن يُفني جاران أو قل عدوان أحدهما الآخر، ولكنني مقتنع بأنه لا بد من مواجهة النظام الإيراني لأنه تورط في جرائم حرب في سوريا بدعمه نظام بشار الأسد ومليشيات حزب الله.. لأنه أيقظ النزعة الطائفية في اليمن وحرض الحوثيين على أبناء جلدتهم.. لأنه أدخل العراق في دوامة الاقتتال المذهبي وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم..
كنت أتمنى أن أكتب عن إيران التي احتضنت حزب الله لتحرير الجنوب ومقارعة إسرائيل في حرب تموز عام 2006. كنت أتمنى أن أكتب عن إيران التي ساندت المقاومة الفلسطينية ووقفت حجر عثرة في طريق المشروع الأمريكي في المنطقة. كنت أتمنى أن أكتب عن إيران التي لا تستعدي جيرانها العرب وتمتطي صهوة النزعة المذهبية للتمدد في ديارهم.
أمّا بعد..
عندما وصلتني الدعوة الثانية لحضور مهرجان إيران الدولي للأفلام القصيرة عام 2012 اعتذرت عنها دون تردد. لم أحتمل فكرة المشاركة في مهرجان رسمي يجمل قبح النظام الإيراني وأمام عيني مشاهد قتل عشرات الآلاف من السوريين بالبراميل المتفجرة وبأيدي المليشيات الطائفية. لم أحتمل فكرة منح النظام فرصة غسل جرائمه التي لا تخطئها العين باستخدام الفن واستقطاب الصحفيين والمخرجين.
باختصار.. كانت هذه حكاية الجزء الأول في التعبير عن حالة من التيه والحيرة والصراع التي تنتابني مثل كثير من الشباب العربي. ووجدت ثلاثة أنواع من الردود إما ثناء على الكتابة أو عتابا أو هجوما. أما الأول والثاني فقدرت من شجعني أو انتقد وجهة نظري في إطار من الذوق والاحترام. وأما النوع الثالث فكان يريدني أن ألغي عقلي تماما وأن أشيطن إيران دون أن أقول ما لها وما عليها. كان من الأسهل عليّ أن أكتب مقالا مشحونا يهاجم إيران وأحظى بالتصفيق، لكن ما أردته هو أن أكتب ما يستفز الجدل ويثير النقاش. غضبي من النظام الإيراني بسبب شروره في سوريا والعراق واليمن ولبنان لن يجعل من السينما الإيرانية فنّا قبيحا.. غضبي من السياسة الإيرانية إزاء جوارها لن يجعل الشعب الإيراني في نظري "عفاريت بمظهر بشري".. غضبي من إيران لن يجعلني في موقف الجلاد ويمنعني من البحث عن الحقيقة وسط الركام.