قبر الغريب سقاك الرائح الغادي..

 

كتب يوم السبت 15 من سبتمبر 2012

تحط الطائرة في مطار اسطنبول صباح يوم الجمعة الرابع عشر من سبتمبر 2012.. أتوجه مسرعا للخروج من المطار لتقلني السيارة إلى حيث انعقاد منتدى الشباب العرب والأتراك وقد تأخرت عن وقت الافتتاح. تسرع السيارة عبر شوارع اسطنبول المزدحمة، وبدا أن الطريق طويل إلى الجانب الأسيوي حيث يعقد المنتدى، فاستعنت بالكتاب الذي لا يفارقني، رواية "قمر على سمرقند".. بدأت أكمل الرواية في صفحاتها المائة الأخيرة.. أتعمد التباطؤ في القراءة أو الشرود أحيانا.. لا أريد للراوية أن تنتهي فصولها الآن.. وفي أجزائها الأخيرة بدت تتسارع أحداثها وتتساقط أوراقها من يدي بسرعة نحو النهاية.. بدأ الزحام يتلاشى تدريجيا، ويتسع الأفق ليظهر البحر من بعيد.. 

تعبر السيارة مضيق البسفور من عالم إلى عالم، من شطر الأرض إلى شطرها الآخر، تعبر من الجانب الأوروبي إلى الجانب الأسيوي من إسطنبول.. أخرج يدي من السيارة.. أتحسس الهواء.. أتأمل موج البحر المتكسر.. فتذكرت قصيدة المعتمد بن عباد مطلعها: "صنع الريح من الماء زرد".. وقد زرت قبره قريبا ووقفت على التاريخ أتأمله وما صنع الله فيه..

شطر بيت الشعر هذا كان روح المعتمد بن عباد.. وعجزه كان شطر روحه الآخر.. كان مع رفيقه ابن عمار عندما كان يتأمل موج البحر المتكسر مع الريح فقال يصفه "صنع الريح مع الماء زرد" ثم سأل ابن عمار أن يكمل شطر البيت فتلكأ.. فأتاه الرد من جارية حسناء كانت تغسل الثياب على الشاطيء.. فأكملت البيت: "أي درع لقتال لو جمد".. كانت تلك اعتماد الرميكية جمع بينهما ذلك البيت من الشعر وما فرق بينهما إلا القبر.. ما أحب المعتمد سواها.. دفنت بجانبه حيث نفاه يوسف بن تاشفين إلى "أغمات" في مراكش.. ماتت قبله فرثاها ثم أدركها بعد ثلاثة أشهر.. حزنا عليها.. وقد عاشت معه نعيم الحياة ومرارتها..

شغفني التاريخ بزيارة قبره وتأثرت كثيرا.. يثير الشجن شعر ابن عباد الذي أوصى بأن يكتب على قبره.. ثم شعر المؤرخ لسان الدين الخطيب الذي زاره من بعد..

مطلع قصيدته التي كتبت على القبر:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي *** حقا ظفرت بأشلاء ابن عبّادِ

رحم الله ابن عباد ملك اشبيلة.. درة الأندلس.. وغفر له إن أخطا..

 

 

 

قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي 

 

 

حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ

 

 

بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمى إِذِ اِتّصلَت 

 

 

بِالخَصبِ إِن أَجدَبوا بالري لِلصادي

 

 

بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اِقتَتَلوا 

 

 

بِالمَوتِ أَحمَرَ بالضرغمِ العادي

 

 

بالدَهر في نِقَم بِالبَحر في نِعَمٍ 

 

 

بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النادي

 

 

نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ 

 

 

مِنَ السَماءِ فَوافاني لِميعادِ

 

 

وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ 

 

 

أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ

 

 

كَفاكَ فارفُق بِما اِستودِعتَ مِن كَرَمٍ 

 

 

رَوّاكَ كُلُّ قَطوب البَرق رَعّادِ

 

 

يَبكي أَخاهُ الَّذي غَيَّبتَ وابِلَهُ 

 

 

تَحتَ الصَفيحِ بِدَمعٍ رائِح غادي

 

 

حَتّى يَجودَكَ دَمعُ الطَلّ مُنهَمِراً 

 

 

مِن أَعيُن الزَهرِ لم تَبخَل بِإِسعادِ

 

 

وَلا تَزالُ صَلاةُ اللَهِ دائِمَةً 

 

 

عَلى دَفينكَ لا تُحصى بِتعدادِ

 

Comment